ما إن انتهت قمة "بريكس 2024" في جمهورية تتارستان الروسية، في 24 من الشهر الفائت تشرين الأول (أكتوبر)، حتى أقفل الملف. لم تأتِ القمة التي حضرها أغلب زعماء المجموعة ما عدا الأمير السعودي محمد بن سلمان، بأيّ جديد. كما لم تتخذ أيّ قرارات فاعلة. بل اقتصر الأمر على إعلان قرارات دون البحث بالآليات التنفيذية.
بدت المجموعة في تلك القمة شبيهة بـ"الجمعية العامة للأمم المتحدة"، التي تحضرها جميع دول العالم، وتطلق التوصيات من دون استحواذها على "ذراعٍ تنفيذية" تستطيع أن تفرض القرارات بالإكراه، وذلك بسبب حجم التناقضات الكامنية بين دولالمجموعة نفسها.
التناقضات تمنع التقدّم
تلك التناقضات تمنع الخوض في المواضيع بعمق، فتقتصر أغلب أعمال المجموعة على التوصيات والبحث على نقاط تقاطع في السياسية والاقتصادية.
يستطيع المراقب أن يلاحظ بكل سهولة أن "بريكس - الفاعلة" تقتصر فقط على روسيا والصين، بينما دول المجموعة الأخرى تنضم إلى هذا التجمّع العالمي، إلى الآن، للبحث عن الفرص استثمارية واقتصادية فقط.
فبينما تعبرها الصين "العائلة" التي سوف تمكّنها العبور من الأحادية القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، ترى روسيا في مجموعة "بريكس" فرصة لإنشاء "منصة" تستطيع من خلالها أن تكسر العزلة الدولية وتغلب تأثير العقوبات الغربية التي فٌرضت ضدها بعد الحرب الأوكرانية.
أمّا التناقضات التي تعتري دول المجموعة، فهي ما بين:
- الصين – الهند، بسبب النزاعات الحدودية القديمة والتنافس على "الرقم 2" في الاقتصاد العالمي.
- مصر – أثيوبيا، بسبب سدّ النهضة الحيوية وشعور القاهرة بتطويقها بتحالف أديس أبابا مع إسرائيل.
- الإمارات العربية المتحدة – السعودية، بفعل الخلافات على أكثر من ملف في المنطقة، وتباعد وجهات النظر بينهما في اليمن والسودان، ولبنان وملفات أخرى.
التوصيات وأوجه الشبه مع الجمعية العامة
في قمة قازان، أعلنت مجموعة "بركيس" عن ثُلة من التوصيات أصدرتها في بيانها الختامي، الذي انتظر حتى اليوم الأخير (يوم القمة بين الزعماء) حتى يبصر النور. بينما في اليومين الأولين (21 و22 تشرين الاول/أكتوبر) فلم يكونا سوى حراكاً دبلوماسياًبلا أهداف أو أفق، وهو ما شكل نقطة ضعف قاتلة للقمة.
أمّا أهم التوصيات، فجاءت على الشكل التالي:
- دعت قمة مجموعة "بريكس" إلى الإصلاح الشامل للأمم المتحدة من ذلك من أجل تعزيز ديمقراطيتها وتمثيلها وفعاليتها. فالمجموعةتنظر إلى المنظمة الدولية باعتبارها أحد مؤسسات العالم المتعدد الأقطاب الذي تطمح إليه، ولهذا توليها أهمية بالغة لأنّها المدخل الجاهز لإعادة "التعددية القطبية" من خلال حقّ النقض (فيتو) داخل مجلس الأمن.
- دانت الهجمات الإرهابية على منشآت البنية التحتية للطاقة العابرة للحدود (نورد ستريم 2 بين روسيا وألمانيا) ودعت إلى إجراء تحقيق غير متحيز من أجل الكشف عن المتورطين. هذا الملف يهمّ روسيا بامتياز، وتطمح من خلال التحقيق به إلى إعادة وصل ما انقطع بينها وبين القارة الأوروبية، خصوصاً في حال أظهرت التحقيقات تورّط الولايات المتحدة أو أوكرانيا، أو حتى أذرع غربية في تفجير أنابيب "سيل الشمال 2".
روسيا كما دول المجموعة، أبدت اعتراضها على سياسة العقوبات أحادية الجانب، التي تنتهك في نظرها مبادئ وأسس الأمم المتحدة.
- أوصت بإجراء دراسة إمكانية إنشاء منظومة مستقلة للدفوعات المالية العابر للحدود. هذا المطلب بدوره يعود بالمنفعة على الجميع.خصوصاً في العمليات التجارية البينية البعيدة على الغرب، أي عن عملتي الدولار الأميركي واليورو الأوروبي.
- وافقت على تحويل "بنك التنمية الجديد" إلى بنك تنمية متعدد الأطراف لدول الأسواق الناشئة، بوصفه مؤسسة جديدة قدارة على مقارعة "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، اللذين تراهما المجموعة مؤسستين غربيتين تتحكمان بقرارات دول الجنوب النامي، وتخراق سيادتها من خلال التوصيات والشروط التي يضعها الصندوق أمام الدائنين.
كما رحبت المجموعة بانشاء منصة استثمارية جديدة تستخدم البنية التحتية لبنك التنمية الجديد، وأكدت على الحاجة لإصلاح البنية المالية الدولية الحالية بهدف حلّ المشكلات المالي.
- دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة والإفراج عن جميع الرهائن دون شروط مسبقة، كما أدانت في المقابل الهجمات الإسرائيلية على المواقع المدنية والإنسانية والبنية التحتية في فلسطين. ودعمت انضمام الأخيرة إلى الأمم المتحدة، وذلك ضمن حدود 1967. كما أبدت قلقها إزاء الصراعات في مناطق مختلفة من العالم وأعلنت صراحة، إلتزامها بتسوية تلك النزاعات بشكل سلميّ، والقضاء على أسبابها الجذرية.
- أظهرت دعماً كبيراً لمبادرة روسيا الرامية إلى إنشاء "بورصة الحبوب"، لتكون قادرة مستقبلاً على تغطي قطاعات الزراعة الأخرى. فروسيا تحوّلت في السنوات العشر الماضية، إلى أكبر مصدّر للحبوب وعملت على تطوير الحبوب جينياً كما أنّها تمتلك اليوم بنكاً وراثياً ضخماً للبذور (من بين أول 5 بنوك في العالم) وتراهن على قدراتها في مجال الزراعة وأراضيها الخصبة من أجل الهيمنة على هذا المجال حول العالم.
التحضيرات... والامتعاض من السعودية
ما ورد أعلاه يخصّ المضمون، أمّا في الشكل فقد اتسمت التحضيرات للقمّة في قازان بالتنظيم الشديد، استطاعت روسيا أن تظهر قدراً عالية في دقّة التنظيم والاجراءات الأمنية التي كانت متشددة لكنّها لم تمنع الحاضرين من الشعور بأي شيء غير معتاد.
كانت الشرطة تفترش الطرقات منذ ما قبل بدء القمة، بينما القوى العسكرية كانت موزعة حتى في الاحراج والغابات.
اختيار قازان في جمهورية تتارستان كان خلفه أكثر من هدف، من بينها:
- مكان بعيد عن المواجهات مع أوكرانيا وحلف الشمال الأطلسي (ناتو)، وذلك بهدف ضمان حماية القمّة من أيّ عمل أمني أو تخريبي.
- إظهار التنوع الثقافي في روسيا الاتحادية، باعتبار أنّ قازان عاصمة جمهورية تتارستان المسلمة تضم الروس المسيحيين والتتار المسلمين... وهذا التنوع كان واضحاً بالفعل في تلك المدينة الجميلة.
حضور عربي كثيف... في اليوم الأخير
في اليومين الأولين من القمة، كان الحضور العربي خجولاً إلى حدّ بعيد. الصحافيون العرب لم يحضرون القمة بشكل كثيف، ما خلا المراسلين العرب المتواجدين في الداخل الروسي أصلاً. لكن مع بدء توافد الزعماء العرب بدأ الصحافيون العرب بالوصول برفقة الروؤساء إلى القاعات المخصصة لهم.
حتى الصالونات الخاصة بالدول العربية والأجنبية، فهي الأخرى والوفود لم تكن موجود، ما خلا المنصة الإيرانية التي كانت حاضرةإلا أنها لم تستقبل أحداً، ويقال إنّ القمة شهدت تغييرات في برامج العمل لكنّ أحداً لم يعرف ما طبيعة تلك التغييرات ولماذا لم تستقبل الوفود الصحافيين أو تجري الحوارات معهم.
كما لوحظ عتب "غير معلن" على المملكة العربية السعودية، لغياب ولي العهد محمد بن سلمان، الذي مثّله وزير الخارجية فيصل بن فرحان في اليوم الأخير ولساعات قليلة، مع العلم أنّ فريق البروتوكول الخاص بالسفارة السعودية في موسكو روسيا، حضر وعاين المكان، كما أتمّ التحضيرات وكأن الامير سيحضر من دون تأكيد ذلك أو نفيه.
الحضور الاعلامي الصيني كان الأبرز في هذه القمة، حيث حضر نحو 700 صحافي صيني ضمن الوفد المرافق للرئيس، وكلّهم مُولت رحلاتهم من وزارة الخارجية، وبشكل غير معلن. وكان هناك اهتمام صيني ملحوظ بالوضع السياسي في منطقة الشرق الأوسط، حيث سعت بكين من خلال وفودها، لإدراج بعض البنود ضمن البيان الختامي الذي طالب بوقف النزاع في غزة ولبنان.