سوريا وقضية الديون اللاشرعية" الديون الكريهة"
كانون الأول 22, 2024
بقلم : أحمد صوان
محامي وباحث متخصص في مجال التشريع والاصلاح القانوني
لم يكتف نظام بشار الأسد البائد بتحويل الوطن إلى حطام وأنقاض، ولم يشبع نهمه بما اقترفه من نهب سورية عبر السنوات الماضية، و انما سعى لبيع مستقبل سورية وتكبيل الأجيال المقبلة بالديون لعشرات السنين القادمة. حيث لجأ النظام في سبيل تمويل حربه على شعبه للاستدانة من مصادر كثيرة، وأثقل كاهل الاقتصاد السوري المتهالك بأعباء ديون هائلة ستعجز الأجيال القادمة عن سداد فوائدها المتراكمة.
الديون الإيرانية هي الأكبر
رغم تعدد المصادر التي استدان النظام منها مثل روسيا والصين، إلا أن الديون الايرانية هي الأكبر والأخطر فقد تناقلت العديد من المواقع تصريحا لأحد المسؤولين الإيرانيين أطلقه بتاريخ /12/12/ 2024/ أي بعد أيام من سقوط نظام الأسد قال فيه" لدينا ديون على سوريا تزيد عن/30/مليار دولار ويجب على الحكومة الجديدة تسديدها" و إن هذا التصريح المتداول لهذا المسؤول يعيد إلى الواجهة الحديث عن الديون التي تترتب على الدول غير المستقرة والدول أثناء فترات النزاع ومدى شرعية هذه الديون وعن مسؤولية السلطات الثورية التي تتولى الحكم بعد الأنظمة الاستبدادية وهذا ما يعرف في الفقه القانوني الدولي بالديون الكريهة .تشير أحدث الأرقام إلى أن الديون الإيرانية المستحقة على سورية تتجاوز 50 مليار دولار، هذه الأموال حصل عليها نظام بشار الأسد خلال السنوات الماضية في صورة دعم مالي مباشر وقروض وخطوط ائتمان، ومنح نفطية وغير ذلك. وهناك تضارب بشأن أرقام الديون الإيرانية على سوريا، تشير الأرقام غير الرسمية الذي ذكرت في تصريحات نيابية من 20 إلى 30 مليار دولار، بينما تتداول الصحافة ان المبلغ يقترب من خمسين مليار دولار.
لقد أنفقت طهران هذه المبالغ كما تدعي لإعادة تأهيل نظام الأسد بعد قيام الثورة، ، عبر تزويده بالأسلحة والمستشارين والجنود وعناصرالمليشيات الشيعية وأن إيران تعتبر تلك الأموال ديوناً مستحقة على النظام السوري وتريد استعادتها بأي شكل من الأشكال والحكومة الإيرانية سعت في الفترة الماضية وبكل الطرق لاستعادة تلك الأموال وذلك عبر شراء أصول وشركات وبنوك وشركات تأمين ومناجم، ورغم محاولات بشار الأسد المراوغة لعدم سداد تلك الأموال بسبب نقص السيولة لدى حكومته، .لكن ايران نجحت بحصولها على مجرد وعود للسداد من خلال اتفاق استغلال منجم للفوسفات لمدة 50 سنة، والحصول على رخص بنوك إيرانية في دمشق وعقد يتعلق بحقل نفط حمص رقم 21، كما فازت طهران بمشروع "خط النفط داخل العراق" الذي يصل بين إيران وسورية و حصلت على موافقة حكومة الأسد بإنشاء وتشغيل محطة للهاتف المحمول، و الوعد لإيران بالشراكة بجزء من دخل ميناء اللاذقية ولمدة 20 عاماً. وكذلك عقد استثمار 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية لمدة 25 عاماً، ومشروع يطلق عليه "زاهد" لتربية المواشي.
ديون روسيا
رغم تأكيد السياسيين في روسيا أنهم قدموا الدعم غير المحدود لنظام الأسد وان لهم ديونا كثيرة على الحكومة السورية، إلا أنه لا توجد إحصاءات أو بيانات تحدد حجم هذه المديونية. علماً أن روسيا سيطرت على مرافق هامة وهي تستثمرها حاليا مثل ميناء اللاذقية ومناجم الفوسفات واستثمارات النفط. و غير ذلك مما لا تفصح عنه أيا من الحكومتين.
ديون الصين
في عام 2012 عرض النظام على الصين – وهي المتخصّصة في شراء السندات – بيعها سندات خزانة بقيمة عشرة مليارات دولار، فتمّ لها ذلك، وقامت بتوريد أسلحة لقاء جزء من هذه المبالغ. كما باع كلّاً من إيران وروسيا سندات بقيمة عشرة مليارات أخرى. كذلك باع حكومة "المالكي” سندات خزانة لم تكشف قيمتها الحقيقيّة. يقول الكاتب "محمّد كركوتي” عندما تشتري روسيا سندات خزانة سورية، فهي تقتل الشعب السوريّ ثلاث مرّات، سياسيّاً من خلال وقوفها سدّاً في وجه أيّ قرار يصدر عن مجلس الأمن الدوليّ ضدّ الأسد وأعوانه، وعسكريّاً عن طريق الإمدادات الحربيّة المتواصلة له، واقتصاديّاً بسندات الخزانة المسروقة من أموال السوريّين الذين يعانون العوز، ويعيش الكثير منهم على أموال الإغاثة.
و سندات الخزانة هي سندات تطرحها الدولة للاكتتاب العامّ، وتعتبر بمثابة قروض تحصل عليها الحكومة من الأفراد أو الشركات أو البنوك، وتبغي الدولة من ذلك تمويل المجهود الحربيّ، وتسمّى "قروض الحرب”، وأحياناً تهدف لتمويل عمليّات التنمية الاقتصاديّة وتسمى "قروض الإنتاج”؛ والسند هو قرض مديد الأجل يتيح لمن اشتراه الحصول على فائدة سنويّة.فما هي مسوّغات الدول لإصدار سندات الخزينة؟
في حال عجز الدولة عن تغطية نفقاتها من مواردها، تلجأ إلى الحلول الإسعافيّة لمعالجة مشاكلها الماليّة، ولكنّه عبارة عن عمليّة تأجيل وترحيل للأزمة وتحميل العبء الاقتصاديّ للأجيال القادمة، التي ستدفع هذه القروض مع الفوائد في المستقبل. ولا شكّ أنّ نظام الأسد يقترض اليوم لا بهدف الاستثمار ولا بغية بناء الاقتصاد السوريّ، بل لتزويد آلة القتل والدمار بمزيد من السلاح والعتاد لقهر الشعب. ودون شك، فإنّ تبعات بيع سندات الخزانة، ستتمثّل بتكبيل الشعب السوريّ، بمليارات إضافيّة من الديون، بعد أن استكمل هذا النظام وقبله نظام والده، خراب الاقتصاد الوطنيّ السوريّ على مدى أكثر من أربعة عقود.
-لم يكن نظام الأسد أوّل الأنظمة المستبدّة التي رهنت الأوطان وباعت المقدّرات للأغراب، فتاريخ الطغاة واحد في أنحاء العالم؛ ولقد حظي موضوع الديون الظالمة ومدى مسؤوليّة الدول المدينة تجاه الدائنين باهتمام فقهاء القانون الدوليّ، الذين حاولوا وضع قواعد: (التوارث الدوليّ في الديون والمعاهدات) وتحديد مفاهيم الديون السياديّة والديون الكريهة والديون غير الشرعيّة. وهناك في العصر الحديث حالات مشابهة وسوابق موثّقة بين الدول، تمّ فيها إسقاط الديون عن الحكومات الجديدة التي تمكّنت من التنصّل من هذه الديون اللاشرعيّة.
المفهوم الدوليّ لمصطلح الديون اللاشرعيّة:
يعود استخدام هذا المصطلح للمرّة الأولى إلى المحكمة الفيدراليّة الأرجنتينيّة، حين أطلقته وصفاً للديون المقترضة من قبل النظام الدكتاتوريّ بين عامي 1976- 1983، ثمّ استخدمته النروج في التسعينيّات، حين أوردته بدفوعها التي برّرت فيها التنصّل من بعض الديون التي اعتبرتها غير شرعيّة.وقد حاول الباحث البريطانيّ "جوزيف هان لون” تحديد وصف منضبط لهذا المفهوم حين ميّز بين الغرض من الدين وشروط هذا الدين، وتوصّل بالنتيجة إلى توصيف أربع حالات نموذجيّة للقروض غير الشرعيّة:
1 – كلّ قرض تمّ منحه لدعم نظام استبداديّ.
2 – كلّ قرض تمّ منحه بمعدّلات ربويّة فاحشة.
3 – كلّ قرض تمّ منحه لدولة (هزيلة اقتصاديّاً) معروفة سلفاً بعجزها عن السداد.
4 – كلّ قرض تمّ منحه من صندوق النقد الدوليّ من الممكن أن تتسبّب شروطه القاسية والصارمة إلى عجز الدولة المدينة عن السداد.
5 – إذا كان المقترض الذي يوقّع على عقد الدين غير مفوّض من السلطة العليا التي يحقّ لها إبرام عقد الدين.
6 – إذا لم تُتّبع القواعد الدستوريّة التي ينصّ عليها دستور البلد عند إبرام عقد الدين.
وتلجأ الأنظمة المستبدّة للحصول على الأموال الطائلة التي تحتاجها لقمع شعوبها إلى الاقتراض من أيّ مصدر وتحت أيّة شروط ظالمة، غير عابئة بمآل هذه الديون والكوارث التي تنتظر الأجيال القادمة. وعليه، فإذا حصل نظام دكتاتوريّ على قرض ولم يكن الهدف منه تلبية مصالح الدولة وإنّما تقوية هذا النظام الاستبداديّ وقمع السكّان الذين يحاربون هذا الاستبداد فإنّ هذا الدين يعتبر كريهاً؛ ومبدئيّاً يكون غير ملزم للدولة، إنّما هو محسوب على النظام المستبدّ باعتباره ديناً شخصيّاً، وبالتالي فهو يسقط بسقوطه. ويمكن للحكومة أن تتخلّى على التزامات سابقتها لأنّ هذه الديون لا تستوفي واحدة من الشروط التي تحدد شرعيّة الديون، كون أنّ "المبالغ المقترضة باسم الدولة يجب أن تُستخدم في تلبية حاجات ومصالح الدولة”.
انتشر هذا المفهوم في عام 1927، بعد أن استخدمه أستاذ القانون الدوليّ بجامعة باريس "نعّوم ألكساندر ساك” وهو وزير روسيّ سابق. فيما بعد تكرّس هذا المفهوم على يد الفقهاء القانونيّين: باتريسا آدامز، وجوزيف هان لون، وجيف كينغ، وبيريان توماس, وأجمعوا على تحقّق الشروط التالية مجتمعة:
لكي يعتبر الدين كريها يجب توفر هذه الشروط:
• انعدام موافقة الشعب.
• عدم تحقّق المصلحة العامّة للسكّان.
• معرفة الدول المقرضة سلفاً بسوء نيّة السلطة المقترِضة.
يقول "نعوم ألكساندر ساك”: إذا قامت دولة غنيّة بمنح قرض مع أنّها تعرف النوايا الحقيقيّة للمقترضين فإنّها تقترف بذلك "عملاً عدائيّاً ضدّ الشعب” وتعرّض نفسها لخسارة القرض، إذا تمّ خلع هذا النظام الدكتاتوريّ، فالدين الكريه هو دين باطل ولا يمكن المطالبة باسترجاعه بعد سقوط النظام المستفيد منه لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة، لأنّه إذا كان من السهل تحديد دلالة "نظام مستبدّ” فإنّه من الصعب تحديد مضمون دقيق لفكرة الديون الكريهة؛ لهذا يشدّد أصحاب هذا الطرح على تحميل الدائنين مسؤوليّاتهم في هذه الديون بدل تحميل المدينين وحدهم مسؤوليّة المديونيّة المفرطة والالتزام بسدادها.
بعض التجارب الدوليّة التي تمّ فيها إسقاط الديون الكريهة واللاشرعيّة عن الدول المدينة.
الديون الكريهة أو الديون المقيتة مصطلح يطلقه رجال القانون على الديون التي تورطت بها حكومات استبدادية مُتعاقبة, ولم تنفقها في مصلحة الشعب, بل استعانت بها لقمعه ودعم استبدادها, ولهذا يرى الباحثون أن الديون البغيضة لا تشكّل التزاما على الأمة بل هي دين حصريّ على النظام الذي اقترضها ودين شخصي يضاف للذمة المالية للحاكم المستقرض, ما يعني سُقوطه عن الأمة بمجرد سقوط النظام, فليس من العدل أن يدفع شعب ما ديوناً لم يتمتع بها ولم تُسخر لمنفعته. في مقاله عن الديون البغيضة يقول الأستاذ أحمد إلياس (إن الفساد هو قرين الاستبداد’ ولطالما عمدت حكومات الأنظمة الاستبدادية للاقتراض المفرط بحجج واهية بينما تُخصص الأموال في الحقيقة لتعظيم أرصدة كبار مسؤوليّيها، ولتدعيم الأجهزة الأمنيّة والعسكرية المنوط بها قمع الشعب عبر صفقات الأسلحة، وكلما شعر النظام بدنوّ أجله: قام بالمزيد من الاستدانة بموازاة تسريع عجلة النهب والسرقة استباقاً للحظة الهروب الأخير) ويوضح الكاتب وائل جمال المبدأ القانونيّ الذي يحكم الاقتراض بين الدول الذي يجب أن يكون في مجالات شرعية وإلّا سقطت قانونيته ومن ثم يسقط الالتزام به، سواء بالمعاملات الخاصة أو بالعقود التي تبرمها دولة مع دولة. و الديون الكريهة في هذا الإطار هي التزامات قام بها الحاكم المستبد’ أو الحكومة غير الشرعية باسم الأمة, و كان من نتيجتها إثراء الديكتاتور و حاشيته لتغذي حساباتهم في المصارف, أو تمول قمع المواطنين (مثل شراء بنادق القناصة) و . ويُؤكد فقهاء القانون الدولي أن إجبار الشعوب على سداد القروض التي استدانتها الأنظمة الاستبدادية هو عمل مُناقض لمبادئ الأخلاق و الأعراف القانونية والدولية لأنه إثراء غير مشروع تحققه الجهات الدائنة على حساب الشعوب غير المستفيدة من هذه الأموال , و أن إجبارها على السداد هو تواطؤ بين المقرضين و الدكتاتوريّات المستبدّة الفاسدة , وهذا التواطؤ يُسوّغ إسقاط هذه الديون فاقدة المشروعية’ يقول الكاتب وائل جمال( القرض الكريه هو قرض مُنح لنظام حكم لا يمثل شعبه لأغراض لا تنفع الأخير’ بمعرفة كاملة من المُقرض , و أن الديون التي تتسبب في إفقار الشعب بسلبه قدرته على التنمية بسبب أن موارده تذهب لسداد التزامات الديون تُعْتبر دُيوناً كريهة).
الآثار القانونية المترتبة على الديون الكريهة:
يترتب على اعتبار الدين كريهاً سقوط هذا الدين عن السلطة الجديدة، وهناك من السوابق العالمية العديدة ما يثبت إعمال هذا المبدأ في حالات دول تمكنت من التخلص من الديون البغيضة التي رتبتها عليها الأنظمة الدكتاتورية التي كانت تحكمها.
تجارب دولية للتخلص من الديون المشبوهة:
أستعرض فيما يلي وبلمحات موجزة بعض الحالات التي نجحت فيها الأنظمة الجديدة بالتخلص من مديونيتها التي رتبتها عليها الأنظمة البائدة:
1-المكسيك:
يعتبر الباحثون أن المكسيك أول دولة في العالم تتمرد و تعلن رفضها الصريح لأداء جزء من ديونها حين أصدر( بينيتو جواريز Benito juarez) قانون "تصفية الديون الوطنية" في عام 1883 و يقضي هذا القانون بالتوقف عن تأدية القروض الخارجية التي كانت قد استدانتها حكومة الدكتاتور (أنطونيو لوبيز دوسانتاآنا) و اعتبر آنذاك قراراً مرتجلاً ومتسرعاً و غير شرعي ,و قد يضر بمصلحة الحكومة الناشئة و بسمعتها الدولية, لكن التاريخ كتب عنه بأنه كان إنجازاً وطنياً عظيماً للمكسيك لأنه أسقط الديون الكريهة لعدم مشروعيتها , و هكذا اعتبرت المكسيك الدولة الأولى في العالم التي أعملت مبدأ البُطلان للديون البغيضة.
2-كوبا:
كانت كوبا مُستعمرةً من قبل أسبانيا ’ وفي عام 1898 اندلعت الحرب بين أسبانيا وأمريكا على أثر إغراق أسبانيا لباخرة أمريكية في هافانا، وأثناء مباحثات السلام طالبت أسبانيا كوبا بتسديد ديونها تأسيساً على أن التزامات الدولة ترتبط بالنظام وليس بالأرض أو الشعب، لكن أمريكا اعترضت لأن أسبانيا استجرت القروض على اسم كوبا وكان توظيف هذه الديون أساساً لكسر إرادة الشعب الكوبيّ، وبما أنّ الجهات الدائنة تعرف مسبقاً كل هذه الحقائق، مما يُبرّر إسقاط هذه الديون. وبناء على ذلك تم توقيع معاهدة باريس /1898/ وألغيت هذه الديون باعتبارها ديوناً كريهة.
3-بولونيا:
تحررت بولونيا من مديونيتها التي كانت تطالبها بها ألمانيا حين رفضت الانصياع للمطالبة بديون تنوء بها ميزانيتها وقد احتجت على هذه الديون باعتبارها ديوناً استعمارية فتم إلغاؤها بموجب معاهدة فرساي /1919/.
4- أثيوبيا:
تمكنت ايطاليا خلال الحرب العالمية الثانية من الحصول على ديون طائلة تم استجرارها على اسم اثيوبيا وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تم التوقيع على معاهدة السلام بين فرنسا وايطاليا عام /1947/وكان موضوع هذه الديون بنداً في هذه المعاهدة وتم إسقاط الديون باعتبارها ديوناً استعمارية فُرضت على الشعب دون أن يستفيد منهابل ودون أن يكون له علم بها.
5- الاكوادور:
تعتبر تجربة الاكوادور مثالية في إدارة أزمة المديونية التي كانت تعاني منها و نجحت بخوض معركة التحلل من ديونها بطريقة قانونية مدروسة بأناةٍ شديدة و نفسٍ طويل’ كانت الاكوادور فريسة لفخ الديون الخارجية في سبعينيات القرن الماضي حين قام الدكتاتور (لوسيو جوتيريز) باستجرار كتلة من القروض بدأت تتضخم نتيجة الفوائد المركبة إذ أصبح مقدار الانتفاع بالقرض لا يمثل 12% من أصل القرض بينما يتسرب 88% منه كفوائد مركبة خدمة لهذا الدين, و بعد الإطاحة به تشكلت لجنة مراجعة الديون التي توصلت لنتيجة مفادها عدم مشروعية هذه الديون لأنها ديون كريهة لم تنفق لمصلحة الشعب و بناء عليه قررت الامتناع عن السداد و بدأت رحلة مفاوضات مع المصارف الأمريكية انتهت في عام /2009/ بتخفيض 67% من مجمل هذه الديون , وحققت بهذا إنجازاً غير مسبوق.
6- بولندا:
قامت ألمانيا بإنشاء صندوق في بولندا لإقراض الألمان لشراء عقارات في بولندا تمهيداً لاستعمارها، وفيما بعد ألزمت البولنديين بالبيع القسري وترتبت تبعا لذلك ديون كبيرة نتيجة تسديد أثمان هذه العقارات’ وفي عام/1919/ ووفقا لمعاهدة فرساي تم إسقاط هذه الديون عن بولندا لأنها ديون كريهة مصدرها البيع القسري وهو تصرف غير مشروع.
7- الأرجنتين:
أرهقت الديون المتعاظمة كاهل الأرجنتين حتى أن الفوائد المخصصة لخدمة ديونها الخارجية فاقت حجم صادراتها بخمسة عشر ضعفاً فأصبح الوفاء بالديون ضرباً من المحال، كان النظام الدكتاتوري السابق قد رتب هذه الديون الخارجية خلال السنوات السبع الأخيرة من حكمه والمنتهية عام /1983/وفي عام /2000/قررت المحكمة الاتحادية في الأرجنتين وبقرار منفرد: اعتبار الديون الخارجية كافة ديوناً كريهة وغير شرعية وبالتالي فهي غير ملزمة لحكومة الأرجنتين وبالفعل فهي لم تسدد منها شيئاً.
8- روسيا:
كانت روسيا القيصرية تنوء بثقل ديون هائلة، وبعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وولادة الاتحاد السوفياتي كان لا بد من حل مسألة المديونية السابقة ’ فأصدرت الحكومة السوفييتية قراراً في عام 1918 يقضي بشطب ديون روسيا كافةً بذريعة أنها كانت ديوناً شخصية للقيصر ولم تستخدم هذه القروض لمصلحة الشعب الروسي ’ مما يجعل منها ديوناً كريهة.
9- رواندا:
تمكنت الحكومة الرواندية من إثبات عدم شرعية ديون النظام السابق المسؤول عن جريمة الإبادة الجماعية لأن هذه الديون تم إنفاقها لشراء الأسلحة المستخدمة ضد الشعب مما يجعلها ديوناً كريهة، و قد أصدر مجلس العموم البريطاني سنة /1998/ قرارا بعدم شرعية هذه الديون.
10- العراق:
بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق أعلنت سلطة الاحتلال بطلان الديون التي حصل عليها النظام العراقي من كل من ألمانيا وفرنسا وروسيا واعتبرتها ديوناً كريهة، وتم الاتفاق على ذلك في اجتماعات "نادي باريس" الذي أقر تسوية الأمر بإسقاط 80% من الديون دون أن تطلق أي صفة على هذه الديون. كي لا تتخذها دول أخرى ذريعة لإسقاط ديونها.
11- كوستاريكا:
في عام 1919 اقترض الدكتاتور (فيدريكوتينوكو) مبالغ طائلة من المصرف الملكي الكندي وبعد الإطاحة به أصدرت الحكومة الجديدة قانوناً بإسقاط هذه الديون عنه فاعترضت بريطانيا لوجود مصالح لها مع المصرف المذكور وطلبت التحكيم من جهة وسيطة هي المحكمة العليا الأمريكية فصدر قرار التحكيم لمصلحة كوستاريكا وفق التالي:
آ- هذه الديون ليست معاملات قانونية بالعرف الطبيعي، وهي لا تحترم أي قانون لأنها أبرمت في حقبة تلاشت فيها شعبية الدكتاتور.
ب- معظم هذه الديون كانت لتمويل الدكتاتور شخصياً.
ج – كان من واجب المصرف المُقرض أن يتأكد من شرعية الدين ويتثبت من مآل إنفاق هذا القرض، حيث أنه لم ينفق للصالح العام.
د- ولما كان المصرف الكندي يعلم بحقيقة مآل هذه القروض فإنه يتحمل عواقب إسقاطها.
النتيجة
ان لكل تجربة من التجارب السابقة خصوصيتها. فكل شعب يبحث عن خلاصه بالسبيل الأنسب لظروفه وواقعه. و إن التذكير بهذه السوابق التاريخية التي تمكنت من خلالها العديد من الدول التخلص من مديونيتها , هذا الأمر يفتح لنا نافذة أمل بإمكانية إسقاط الكثير من الديون الكريهة التي رتبها النظام على الحكومة السورية لأن مقارنة بسيطة لواقع الديون السورية مع الحالات الواردة أعلاه تؤكد عدم شرعيتها لأنه تعتبر نموذجاً للديون الكريهة مما يوجب إسقاطها , لكن لن يكون السبيل لذلك مفروشاً بالورد لأن الجهات المقرضة ستتفانى دفاعاً عن مصالحها و هذا يتطلب من السوريين الاستعداد لهذه المعركة القانونية القادمة.
الحالة السورية
السؤال المحوري الآن، وبعد نجاح الثورة و سقوط النظام المجرم ، هل ستنجح الحكومة السورية الجديدة التي أطاحت بالأسد أن تطيح بهذه الديون المستحقة لإيران وروسيا وغيرهما من الحلفاء للنظام ، ولا شك أن المطالبة بإسقاط هذه الديون يجب أن تستند إلى الدفوع التالية: إن السلطة التي استدعت القوات الإيرانية للدخول إلى سوريا هي سلطة غير شرعية فقدت شرعيتها منذ قيام الملايين من الشعب السوري بمعارضة حكم الأسد. كما أن انعدام المصلحة للشعب السوري بهذه الديون يفقدها مسوغاتها وشرعيتها كما أن الدول الدائنة جميعها تعرف مسبقا سوء نية النظام من هذه الديون التي يستعين بها على قتل الشعب وتدمير البلاد . كما أن هذه الديون لم يستفد منها الشعب ولم تستخدم لتطوير الاقتصاد إنما استخدمت لدعم نظام الحكم الاستبدادي وقتل الشعب. كما أن الدول الدائنة تعرف أن هذا النظام هو نظام استبدادي وغير مستقر ومن الممكن أن يطاح به ولن تستطيع هذه الدول استيفاء ديونها كما أن هذه الديون لم تعرض على البرلمان ولم يعرف بها الشعب ولو فرضنا جدلا أنها عرضت على البرلمان فإن هذا البرلمان هو فاقد الشرعية لأن انتخابات مجلس الشعب كما يعرفها العالم كله هي انتخابات مزورة ولا شرعية ولا تمثل الشعب السوري بأي شكل من الأشكال. لأن أكثر من نصف الشعب السوري لم يشارك بها بسبب التهجير والاعتقال. وأغلب الاتفاقيات و عقود الدين بقيت طي الكتمان ولم ينشر عنها في الإعلام وهذه الديون التي وقعها نظام قاتل فاقد للشرعية.
لما سبق يحدونا الأمل أن تنجح الحكومة السورية الجديدة بإسقاط هذه الديون لأن نجاحها في هذا المسعى سيخفف عن كاهل الدولة التزامات هائلة ستعيق تقدمها وتمنعها من تطوير اقتصادها وإعادة بناء المنشآت التي دمرتها الحرب العبثية التي شنها بشار الأسد على كل الشعب السوري. وإن من المفيد مواجهة إيران بالادعاء المتقابل عليها من خلال مطالبتها بالمليارات كتعويض عما دمرته قواتها في سوريا ومطالبتها بالتعويض عن الخسائر البشرية عن مئات آلاف السوريين الذين قتلوا على يد القوات الإيرانية والمليشيات المتنوعة التي أدخلتها إلى الأراضي السورية. ومطالبتهابالتعويض عن الأضرار المعنوية التي أصابت وحدة الشعب السوري كاملا من خلالترسيخ النزعات الطائفية. والجرائم التي ساهمت بها من خلال التهجير القسري والتغيير الديموغرافي ونقل مجاميع كثيرة من الشعب السوري من أماكنهم إلى أماكن أخرى وتهجير الشعب السوري داخليا وخارجيا. لا شك أننا أمام معركة قانونية ضارية مع الحكومة الإيرانية التي لن تتنازل بسهولة عن مطالبها كما أن الحكومة السورية الجديدة سوف تستميت بالدفاع عن مصالح الشعب السوري المقهور الذي عانى الكثير من سياسة إيران وانتهاكها لحقوق الشعب السوري. ومع كل العقبات و الصعوباتلنتذكر دوماً أن القضايا الرابحة مرهونة دوماً بوجود المحامي الناجح.
المراجع
1-بحث بعنوان الديون المتسمة بعدم المشروعية (الديون المقيتة) صدر عام 2007 للدكتور ثقل سعد العجمي جامعة الكويت.
2-رسالة ماجستير بعنوان استخلاف الدول في الديون وفق الاتفاقيات الدولية للباحث طاهر أورحمون/1994/ جامعة الجزائر.
3-مقال للكاتب وائل جمال بعنوان لا لديون الاستبداد /23/10/2011/
4-الديون الكريهة مقال للكاتب البريطاني جوزيف هانلون,/2010/ ترجمة (رشيدة الشريف, و Rahmani Mimoun )
5-بحث للكاتب العراقي كمال السيد قادر/2005/ بعنوان العراق غير ملزم بديون النظام السابق.
6-كتاب الديون الكريهة للكاتبة البريطانية (Patricia adams)
7-مقال بعنوان شرعية الديون التي رتبها نظام الأسد ومدى إلزامها للحكومات المُقبلة، منشور بموقع أورينت نت في /7/6/2015 /د. وسام الدين العكلة.
8 – مقال (الديون الكريهة) للبريطانيّ "جوزيف هانلون” ترجمة "رشيدة الشريف” 2010
10- بحث (التوارث الدوليّ بالديون) د. محمود الحجازي و أ. إبراهيم العريني.
11 – مقال (الديون الخارجيّة بين الإطفاء والتسديد) د. وجيه العلي.